كلمة العدد
رمضان
والصيام في حياتنا بين الأمس واليوم
لقد طَغَتِ المادّيّةُ اليوم ، وانتصرت الحضارةُ المادّيّةُ – مُتَمَثِّلَةً في الحضارة الغربيّة الداعية بكل قوة ووسيلة إلى الثورة على نواميس الكون ، وسنن الله – فشَغَلَتِ الإنسانَ حتّى المسلمَ فضلاً عن غير المسلم بتحسين الحياة الدنيا وحدها نابذًا وراءه الاهتمامَ بجانب الآخرة ، وخَطَتْ خطوة أخرى فحَثَّتْه بتحويل الدين دنيًا ، وجعلِ جميع ما يتعلّق به مظهريًّا تقليديًّا ، لامخبريًّا عباديًّا ؛ فعاد المسلم يتعامل مع الدين أوامرَ ونواهيَ : أحكامًا وعباداتٍ وشرائع وشعارات ، كأنّه تقليدٌ يمارسه أو طقسٌ يؤدّيه . واتّخذه مظهرًا من المظاهر الكثيرة التي يصطنعها الإنسانُ للزينة والزخرفة، والتفاخر الكاذب ، والسمعة السرابيّة ، والاستجابة لدواعي المعدة ورغبات البطن ، و شهوات النفس الأمّارة بالسوء ؛ أو التأنق والتعالى أمام أبناء الديانات الباطلة ، الذين لاتعدو عباداتُهم وشعاراتُهم الدينيةُ المُكَاءَ والتصديةَ ومظاهرَ الرقصِ والطربِ ؛ بل الفجورِ والسفورِ وأنواعِ المعاصي والآثامِ التي يُزَيِّنُها لهم الشيطانُ الغَرُورُ الذي إيّاه يعبدون .
يجوز
أن نضرب لذلك أمثلة كثيرة من عباداتنا، التي جعلناها جوفاء وأفقدناها روحها
بتصرفاتنا ؛ ولكن نكتفي الآن بالحديث عن رمضان المبارك وصيامه ؛ لأننا نكاد
نستقبله بعد أيّام .. فقد كان السلف – رحمهم الله – يستعدّون لاستقباله منذ مدة
كافية ، وقوامُ استعدادهم كان يكون التوبة من المعاصي ، والإقلاع عن الذنوب ،
ويتخذون العدة النفسيّة لاستقباله بالإكثار من الطاعات ، والتوفّر على العبادات ،
ولاسيَّما منذ دخول شعبان ؛ حيث كانوا يصْوُمون كثيرًا من أيّامه ، ويقضونها في
السنن والنوافل وتلاوة القرآن وذكر الله عزّ وجلّ ، ويربّون الشوقَ لبلوغه ،
ويدعون الله متضرعين لتمديد أعمارهم حتى يدركوه ويسعدوا ببركاته وخيراته ، فيعيشون
الحنين للقائه كالعاشق الهيمان والمحبّ المتيمّ ، يتملّك جوانحَهم الوجد والتوق .
وكلما دنت أيامه زاد وهجُ شوقهم وتملّكتهم الرغبة الملحة الجامحة في وصاله
والالتذاذ بالسهر والقيام وقلة المنام في أيّامه ولياليه ، فما إن حلّ عليهم حتى
عمروه بالطاعات وكل نوع من القربات . وإلى جانب ذلك كانوا يعيرون بعضَ الاهتمام
بتنظيف المساجد وغسلها واستبدال فرشها الجديد بفرشها القديم ، كما كانوا يُنَظّفون
بعضَ التنظيف ويزيّنون التزيينَ الحلالَ بيوتهم ومنازلهم . وكلُّ ذلك إهاجةً للشوق
واهتمامًا بقدسيّة رمضان ، وتعظيمًا لشهر القرآن ، وعناية بإذكاء الذوق الإيماني،
وتنشئةً للجانب الروحاني لدى المجتمع الإسلاميّ العامّ .
أمّا
اليوم بعدما غَزَتْنا الحضارةُ الغربيّةُ ، وانتصرت علينا الماديّةُ ، واستسلمنا
لدواعي النفس والشيطان ، وقَلَّدْنَا منهجَ الغرب في الحياة وأسلوبَه في التعامل
مع حقائق الحياة ، فعدنا لا نهتمّ بالجانب الروحي ، ولا نستقبل رمضان استقبال
السلف ، ولا نتعامل معه كعبادة مطهرة للروح، ومُصِحَّة للبدن ، ومزيلة لأدران المعاصي
التي تراكمت على قلوبنا وعقولنا وغمرت ظلماتُها كياننَا ، وإنما نتعامل معه كمظهر
للتمتع ، وموسم للتفرج والتنزة ، ومناسبة لملء البطون ، وفرصة للتذذ بالأطعمة
الشهية ، والأكلات اللذيذة ، وأنواع الطعام الشرقية والغربية ، فنستعدّ لرمضان
بتكديس الأطعمة والمواد الغذائية ، والتنافس في التسوّق، وإعداد الملابس الفاخرة ،
والتفرج على السهرات التلفزيونية ، وربما على الرقصات الخليعة ، ومشاهدة الأفلام
الماجنة ، والأغاني التي تنشدها الفتيات المطربات الفاتنات . وذلك كله يفسد علينا ما يكون قد بقي لدينا من روحانية
رمضان ، وقدسية الزمان ، وبركات القرآن ، و خيرات التراويح والقيام . ونهارُنا
أصبح عبــارةً عن الكسل والخمول ، والغضب بأدنى سبب ، والتقصير في أداء الوظائف
والمسؤوليات ، وكثرة المنام ، والتقاعد عن العمل بحجة الصيام . أما باقي أوقاته
فتضيع في شراء موادّ الإفطار ، والتردد على الأسواق ؛ فلا تبقى فرصة للذكر
والتلاوة والعبادة . وأمّا الليلُ فيمضى كسولاً من أجل الإكثار من الأطعمة اللذيذة
، فلا نكاد نقوم بشكل صحيح في صلاة التراويح ، ولانسهر للقيام والتهجد ، ولا نقدر
على عمارة خلواته بالمناجاة والإنابة والبكاء عند الربّ الغفور الشكور.
على
كلّ فجعلنا رمضان وصيامه واستقباله وكل ما ينبغي أن يصنع فيه المؤمن ، مظهريًّا
يعتمد التظاهرَ والرياءَ وما لايحبّه الله ورسوله في شأن هذا الشهر الفضيل وعبادته
اللطيفة التي هي له تعالى خاصة وهو الذي يَجْزِي به أو يُجْزَى به .
* * *
إن
عبادة الصيام من بين شقيقاتها الثلاث، عبادة فريدة خصّها الله بمزايا لاتوجد في
غيرها من العبادات ؛ فمدّتُها الزمانيّةُ كلها عبادة إذا لم يرتكب الصائم ذنبًا ،
أي لاتنحصر عباديّة عبادة الصيام في أن يؤدّي الصائم الصلاة أو يتلو القرآن أو
يذكر الله جلّ وعلا بشكل من الأشكال ، وإنما الصائم في عبادة متصلة بمجرد كونه
صائمًا ؛ فقد قال النبي ﷺ
: «الصائم
في عبادة من حين يصبح إلى أن يمسي مالم يغتب فإذا اغتاب خرق صومه»
(كنز العمال 4/334، رقم الحديث 23898، عن ابن عباس رضي الله عنهما نقلاً عن مسند
الفردوس) . ولكن انشغاله بالعبادات الأخرى يزيده نورًا على نور، وفضلاً على فضل،
فليشغل بها نفسه ، ولايشغلنّها باللهو .
ومن
خصائص الصيام وتأثيراته الفريدة أنه يجعل الروحَ تنتصر على المادة ، والمعنويةَ
تتغلّب على المعدة ؛ حيث يصوغ النفسَ البشريّةَ نفسًا ربّانيةً متساميةً عن
الشهوات ، متهالكةً على دواعي العقيدة والإيمان ، وعلىما يقوّى صلتها بالربّ
الرحمن .
* * *
والصيامُ ثوابُه موفور وأجرُه متكاثر، وهو
عبادة لاتدانيه غيرها في توافر الأجر وتكاثر الذخر؛ ففي حديث قدسي «كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم ؛ فإنه لي وأنا أجزي به» (متفق عليه) وعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – :
«أن
رسول الله – ﷺ – قال : الأعمال
سبعة: عملان موجبان ، وعملان بمثلهما ، وعمل بعشرة أمثال ، وعمل بسبع مائة ضعف،
وعمل لايعلم ثوابه إلاّ الله جلّ جلالُه . فأما العملان الموجبان فمن اتقى الله
تعالى وجبت له الجنة ، ومن لقي الله تعالى وقد أشرك به وجبت له النار، ومن عمل
سيئة جوزي بمثلها ، ومن عمل حسنة جوزي عشرًا ، ومن همّ بحسنة جوزي بمثلها ، ومن
أنفق في سبيل الله ضعف له نفقة الدرهم بسبع مائة ، والدينار بسبع مائة دينار.
والصيامُ لله تعالى لايعلم ثوابه إلاّ الله»
(رواه البيهقي).
وفي حديث : «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» (متفق عليه).
وفي حديث : «والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح
المسك. للصائم فرحتان يَفْرَحُهما : إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربّه فرح بصومه» (متفق عليه).
* * *
ويجب
أن يستحضر الصائم أن الصيام لايعني فقط الامتناع عن الطعام والشراب ، وإنما يعني كذلك
أن تمتنع جوارحه عن محارم الله عزّ وجلّ وعن كل ما يخدش الصوم ويسلبه روحه ويتركه
مبنى لايحمل معنى ؛ فقال رسول الله – ﷺ
– «فمن
لم يدع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»
(رواه البخاريّ) .
فالصيام المثمر المحقق للنتائج المتوخاة منه
لدى الشريعة ، والمنجز للأغراض التي من أجلها فرضه الله علينا إنما يتأتّى إذا
راعينا الآداب التي تباركه وتُثَمِّره ، فلا نصخب ، ولانغتب ، ولانكذب ، ولانمشي
بالنميمة ، ولانمارس اليمين الكاذبة ، ولا ننظر بالشهوة ، ولانتسابّ، ولا نتشامّ ،
ولانتشاغل باللهو وبما يشغل عن الاهتمام بجانب الآخرة ، ونهى عنه الشريعة .
فإذا صمنا بالآداب التي علمتنا الشريعة، كان
صيامنا – كما قال الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين – زكاة للنفس ، ورياضة
للجسم ، وداعيًا للخير والبرّ ، وكانت فيه منافع لنا بصفتنا صائمين ، وصيانة
للجماعة ؛ لأن الصائم حين يجوع ويعطش يشعر بجاحة الجائع من الفقراء المحرومين ؛
لأنه بعد الابتلاء والتجربة يعرف المرأ قيمة النعمة التي يُحْرَمُ إيّاها ؛ فيعرف
مدى معاناة المحرومين منها ، فيندفع إلى إزالة معاناتهم ، ومعالجة مشكلاتهم ،
بالإطعام إذا مست الحاجة إلى ذلك ، وبالكساء إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، وبالمداواة
إذا مرض فقير، وتحقيق الحاجة للمحتاج .
وكان
من أسوته صلى الله عليه وسلم الجود الذي لم يسابقه فيه أحد ولن يسابقه ، وكان أسخى
الناس في شهر رمضان ؛ فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال :
«كان
النبي – ﷺ – أجودَ الناس
بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان ، حين يلقاه جبريل . وكان جبريل – عليه
السلام – يلقاه في كل ليلة من رمضان ، فيدارسه القرآن فلرسولُ الله – ﷺ
– حين يلقاه جبريل ، أجودُ بالخير من الريح المرسلة (متفق عليه) .
فالصيام ينحت من الإنسان إنسانًا آخر، قويم
السلوك ، مستقيم السيرة ، نزيه السريرة، أليفًا ، رؤوفًا ، رحيمًا ، جوادًا ،
كريمًا ، ومسلمًا منشودًا لدى الرب ، مرضيًّا لدى الله . وبذلك فالصيامُ مدرسة
جامعة تخرج المسلم تخريجًا جديدًا لم يعهده في حياته من قبل ، ويجعله متكاملاً في
دينه ، ناجحًا في دنياه ، متمسكاً بالخلق الحسن ، متملِّئًا أدبًا إسلاميًّا ،
متساميًا عن جميع السفاسف ، متناهيًا عن كل السلبيّات ، متحليًّا بجميع
الإيجابيّات . وقد أجاد أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله
(1298-1356هـ = 1881-1937م) عندما قال في كتابه «وحي القلم»:
«الصوم
للإنسان صناعة جديدة ، تخرجه من ذات نفسه ، وتكسر القالب الأرضيّ الذي صُبَّ فيه ،
فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي جسمه ، فلا تغرّه الدنيا ،
ولا يمسكه الزمان ، ولاتخضعه المادة ، إذ كانت هذه صفات المُسْتَعْبَد بأهوائه لا
الحرّ فيها، الخاضع لنفسه لا المستقلّ عنها ، المقبور في إنسانيته لا الحيّ فوق
إنسانيته . ومثل هذا المُسْتَعْبَد الخاضع المقبور لاوجود له إلاّ في حكم حواسّه ،
معمله ما يعيش به لا ما يعيش من أجله، ويتصل بكل شيء اتصالاً مبتورًا ، والصومُ
يُطْلِقه من سلطان نفسه ، وينفع الآدميةَ فيه ، فيجعله يجد نفسه وموضع نفسه»
.
وجعل
الله رمضانَ موسمًا للخيرات وعلوّ الدرجات ، يضاعف فيه أجر العامل ، ويزيد ثوابَ
العابد ، وقد شاءت حكمتُه أن يجعله محطة يقف عندها المتلطخ بالمعاصي والذنوب التي
صدرت منه طوالَ السنة ، فينسلخ عنها بتزكية النفس ، والتطهر عن كل ما أتاه من
الذنوب ، بفضل رمضان الكريم الذي يحصد في أوقاته المحدوده الأجورَ غير المحدودة .
من هنا أبدى النبي الكريم ﷺ
غايةَ أسفه على من رُزِقَ رمضانَ ولم يقدر على تكفير ذنوبه وتدارك معاصيه بكثرة
الاستغفار وصحيح التوبة والاطّراح على عتبة الربّ الغفور .
* * *
وفي
باب رمضان والصيام حديث ضافٍ رواه ابنُ خزيمة عن سلمان الفارسيّ – رضي الله عنه –
اهتم به العلماء كثيرًا ، وعُنُوا بذكره وشرحه لدى الحديث عن رمضان وصيامه وفضلهما
. وهو أن سلمان رضي الله عنه قال:
«خطبنا رسولُ الله – ﷺ – في آخر يوم من شعبان ، فقال : أيّها الناس ! قد أظلَّ
عليكم شهر عظيم مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة ،
وقيام ليله تطوعًا . من تقرب فيه بخصلة ، كان كمن أدّى فريضة فيما سواه . ومن أدّى
فريضة فيه كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه . وهو شهر الصبر ، والصبرُ ثوابُه
الجنة ، وشهرُ المواساة ، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن . من فطّر فيه صائمًا كان
مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء.
قالوا : يا رسول الله ! ليس كلُّنا يجد ما يفطر صائمًا . فقال : يعطي الله هذا
الثوابَ من فطّر صائمًا على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن . وهو شهرٌ أوّله رحمة
وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار . ومن خَفَّف عن مملوكه غفر الله له وأعتقه من
النار. واستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتين ترضون بهما ربكم ، وخصلتين لاغنى لكم
عنهما ، فأمّا اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلاّ الله وتستغفرونه ،
وأما اللتان لاغنى لكم عنهما فتسألون الله الجنةَ وتستعيذونه من النار. ومن سقى
صائمًا سقاه الله من حوضه شربة لاتظمأ بعدها حتى يدخل الجنة» .
وَفَّقنا الله لنتأسّى برسولنا ﷺ وبصحابته الكرام رضي الله عنهم ، ونعطي هذا الشهر الفضيل
حقَّه من التقدير والاحترام ، لنحصد فيه الخيرات بأنواعها، ونتجنب السيئات جميعها
، ونعود فيه مغفوري الذنوب كيوم ولدتنا أمهاتنا . اللهم وفقنا دائمًا لما تحب
وترضى ، وجنبنا ما لا تحبه وترضاه .
(تحريرًا
في الساعة 5 من مساء يوم الاثنين : 19/ رجب
1427هـ الموافق 14/ أغسطس 2006م)
نور عالم خليل الأميني
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان - شوال 1427هـ =
أكتوبر - نوفمبر 2006م ، العـدد : 9-10 ، السنـة : 30.